عملية رفح- حتمية إسرائيلية أم ورقة تفاوض أخيرة؟

المؤلف: د. سعيد الحاج11.17.2025
عملية رفح- حتمية إسرائيلية أم ورقة تفاوض أخيرة؟

تؤكد البيانات المتكررة الصادرة عن القيادات السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال، أن الجيش الإسرائيلي يستعد لشن عملية برية في رفح، الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة، وذلك على الرغم من التحذيرات الشديدة اللهجة التي صدرت عن جهات عديدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومصر. يعتبر الاحتلال هذه العملية شرطًا ضروريًا وحتميًا لإنجاز الحرب وتحقيق نصر عسكري حاسم، ويعتبر أي شيء أقل من ذلك بمثابة هزيمة نكراء.

الطريق إلى رفح

لا نبالغ إذا قلنا إن الآلة العسكرية الإسرائيلية قد شنت عدوانها الغاشم على قطاع غزة بالطريقة التي ترغب بها، وبحرية تامة وملحوظة، مستغلةً تفوقها العسكري الكبير على المقاومة الفلسطينية، والدعم اللامحدود وغير المشروط الذي تتلقاه من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية الحليفة لها، والصمت المخزي الذي يلف العالم العربي والإسلامي بشكل عام، وقواعد الاشتباك المستحدثة، ولكن المنضبطة والمفهومة مع أطراف محور المقاومة، وعلى وجه الخصوص حزب الله في لبنان، وحالة الضعف الشعبي في العالمين العربي والإسلامي.

ونتيجة لذلك، أمطر الاحتلال قطاع غزة بكميات هائلة وغير مسبوقة من القذائف والصواريخ، ثم خطط للعملية البرية المنشودة، ونفذها بشكل تدريجي وبطيء، بدءًا من شمال غزة، ثم مدينة غزة، ثم المحافظات الوسطى، وصولًا إلى خان يونس، منتهكًا خلال ذلك كل القيم الإنسانية والأخلاقية، ومستهدفًا البشر والحجر وكل ما يمت للحياة بصلة، دون أي قيود أو موانع سياسية أو قانونية أو أخلاقية تذكر.

وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على العدوان، فشل الاحتلال الذريع في تحقيق أي من الأهداف الكبيرة التي حددها لعمليته العسكرية، فلم يتمكن من القضاء على حركة حماس، ولا من منع هجماتها الصاروخية المستمرة، ولا من تقويض قدراتها العسكرية، ولا من تحرير أسراه المحتجزين لدى الحركة وباقي الفصائل الفلسطينية.

ولكنه تسبب في المقابل بمأساة إنسانية غير مسبوقة، تفوق كل التصورات والتوقعات، بهدف الضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية ولي ذراعها وإجبارها على الاستسلام.

إذن، فالتلويح المستمر بشن عملية برية وشيكة في رفح، في ظل التكدس الهائل للنازحين فيها بأعداد كبيرة، يمثل ورقة تفاوضية قوية بيد الاحتلال، يسعى من خلالها إلى إضعاف موقف حماس وفصائل المقاومة الأخرى.

في نهاية المطاف، تجمع ما يقرب من مليون وأربعمائة ألف مدني، وفقًا لتقديرات دولية، في مدينة رفح ذات المساحة الجغرافية الضيقة، في ازدحام رهيب، مما يدق ناقوس الخطر وينذر بوقوع مجازر مروعة وغير مسبوقة بحق المدنيين العزل في أي عملية عسكرية، حتى لو كانت محدودة النطاق.

في المقابل، سبقت الحديث عن العملية البرية المرتقبة في رفح تطورات هامة، من بينها القرار الأولي الصادر عن محكمة العدل الدولية، والذي يعني أن "إسرائيل" متهمة بارتكاب جريمة إبادة جماعية، وأنها تخضع للمراقبة والملاحظة الدقيقة، بالإضافة إلى تراجع الحماس الغربي للعملية العسكرية في غزة، بل ووجود بعض الضغوط المتزايدة باتجاه إنهائها، وظهور مستوى من الاختلافات في وجهات النظر مع الإدارة الأمريكية (لم تصل إلى حد الخلاف والشقاق)، فضلًا عن بدء مسار من المفاوضات لوقف إطلاق النار، وُصف بالجدي والواعد بعد اجتماع باريس.

إلا أن تراجع نتنياهو المفاجئ عن مسار التفاوض، بعد رد حماس على ما سُمي "اتفاق الإطار"، بل وما سُرّب بأنه تراجع حتى عن اتفاق الإطار نفسه الذي كانت حكومته جزءًا منه، بالتزامن مع ازدياد وتيرة التصريحات الأخيرة بالإصرار على العملية البرية في رفح، جعل الأمر برمته يبدو وكأنه ورقة تفاوضية للضغط على حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى.

وهذا تحليل منطقي وواقعي، نظرًا لحرص حركة حماس الشديد على تجنيب المدنيين في رفح ويلات وتداعيات العملية البرية، ومرونتها الملحوظة حتى اللحظة في محطات التفاوض المختلفة، وافتقادها للظهير العربي والإسلامي القوي، والأوضاع الإنسانية المتدهورة في عموم القطاع، وخاصةً في محافظتي شمال غزة وغزة، حيث يعاني السكان من تجويع ممنهج.

هذا صحيح ومنطقي بالفعل، ولكنه لا يكفي بمفرده، من وجهة نظرنا، ليكون إطارًا تفسيريًا للإصرار الإسرائيلي المستميت على تنفيذ العملية.

عملية حتمية

إذن، فالتلويح المتواصل بعملية برية وشيكة في رفح، في ظل الاكتظاظ السكاني الهائل للنازحين فيها، يمثل ورقة تفاوضية ذات قيمة كبيرة بيد الاحتلال، يحاول من خلالها إضعاف صلابة موقف حماس وفصائل المقاومة الأخرى.

وقد أكد وزير دفاع الاحتلال، يوآف غالانت، أن "تعميق العملية العسكرية في غزة" من شأنه أن يقرب "إسرائيل" مما وصفه بـ "اتفاق واقعي لتبادل الأسرى".

لكن سلوك حكومة نتنياهو حتى الآن يعزز الاعتقاد بأن العملية ستشن حتمًا، حتى لو أبدت الأطراف الفلسطينية مرونة غير مسبوقة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين الجانبين.

وعلى الصعيد الميداني، ورغم كل ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية من دمار وخراب، لا تزال دولة الاحتلال بعيدة المنال عن تحقيق صورة نصر حقيقي، بل وحتى عن مجرد الادعاء بذلك، على الرغم من توغلها في معظم مناطق القطاع ومحافظاته، وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتدمير البنية التحتية بشكل كامل، وتحويل غزة إلى مكان غير صالح للحياة.

ولذلك، ما زالت حكومة نتنياهو، ومعها المؤسسة العسكرية والأمنية، تؤمن إيمانًا راسخًا بضرورة دخول و/أو احتلال جميع محافظات القطاع، للوصول إلى مرحلة يمكن فيها ادعاء النصر الزائف.

وهذا يعني أن العملية في رفح تعتبر حتمية ولا مفر منها بالنسبة لهم، ولذلك فقد صرح نتنياهو بأن مجرد الامتناع عن دخول رفح يعني "الاستسلام لحماس، بل وخسارة الحرب بأكملها".

فضلًا عن ذلك، فإن أي عملية عسكرية في رفح ستعني، من الناحية النظرية، زيادة احتمالية الوصول إلى بعض الأسرى وتحريرهم، وقد ادعى الاحتلال بالفعل تحرير أسيرين في رفح في عملية عسكرية خاصة، ذهب ضحيتها ما يقارب المئة شهيد، بغض النظر عن مدى دقة روايته المزعومة.

والأهم من كل ما سبق أن الاحتلال يرى أنه من الضروري والملح الاشتباك المباشر مع كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، في رفح، إذ أن هذا الاشتباك، وفقًا لرؤيته، سيوقع فيها الخسائر الفادحة ويقوض من قدراتها العسكرية، وبالتالي يضعفها مرحليًا وفي المستقبل، ويمنح نتنياهو الفرصة الذهبية للادعاء بأنه واجه حماس ودمر بنيتها العسكرية في "كافة مناطق قطاع غزة".

وهو المعنى الذي أكده بيان صادر عن مكتب نتنياهو، والذي جاء فيه: إنه "من غير الممكن القضاء على حماس مع إبقاء أربع كتائب لها في رفح".

من جهة أخرى، ترى حكومة الاحتلال أنها ليست لديها متسع من الوقت لتأخير العملية، وأن من الأفضل لها أن تبدأها وتنهيها قبل حلول شهر رمضان المبارك (بعد شهر تقريبًا من الآن)، تفاديًا لردود فعل شعبية غاضبة وانفلات أمني محتمل في الضفة الغربية تحديدًا و/أو بعض الدول العربية.

وبالتالي، فإن الأجدر استغلال شهر رمضان في إعلان التهدئة وتبادل الأسرى، في حال التوصل إلى اتفاق، وليس في العمليات العسكرية التي تزيد من حدة التوتر وتعمق الأزمة.

وبناءً على كل ما سبق، تبدو العملية البرية في رفح حتمية بالنسبة للاحتلال، ولا يبدو أن هناك اختلافات جوهرية بين المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية بخصوص خطوطها العريضة، ولا حتى هناك اعتراض أمريكي جاد يمكن أن يحول دون وقوعها.

إذ أشارت تصريحات الرئاسة والخارجية الأمريكيتين إلى مشاركة واشنطن، تل أبيب أهداف القضاء على حماس وتحرير الأسرى، مع التأكيد في الوقت ذاته على ضرورة "وجود خطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ" لحماية المدنيين الأبرياء في رفح.

وما لا يبدو واضحًا بشكله النهائي، في المقابل، هو سقف العملية وأهدافها الحقيقية ومداها، وهي أمور ستعتمد إلى حد كبير على أداء المقاومة الباسلة في رفح وعموم القطاع، ومدى قدرة الاحتلال على إخلاء المدنيين من رفح باتجاه خان يونس والمحافظات الوسطى و/أو مصر، والموقف الأمريكي الحقيقي من العملية بعد اتضاح كافة تفاصيلها، ومدى قدرة نتنياهو على تبرير العملية وتسويقها على المستوى الدولي.

إلا أنه من الواضح تمامًا أن نتائج العملية المرتقبة في رفح لن تختلف بشكل جذري عن سابقاتها في المحافظات الأخرى، أي أنها أبعد ما تكون عن أن تسفر عن نصر حاسم وقاطع للاحتلال، مما يعني أنها وإن انطلقت لأهداف سياسية وعسكرية وأمنية، إضافة إلى ملف التفاوض، إلا أن الأخير هو ما يمكن أن يحسم الأمر في نهاية المطاف.

فالعملية ستُستغل في نهاية المطاف وتُقرأ كورقة تفاوضية، وليست كمحطة فاصلة لإنهاء العدوان بالضربة القاضية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة